“الطب النفسي عن بعد تفاهة واستخفاف وترّهات!!!”
في تاريخ 3/5/2016 م أعلنت عن افتتاح عيادة نفسية أونلاين عامة وللأطفال خاصةً عبر موقعي الشخصي[1] ، وذلك بعد أن أصبحت الحاجة ملحة لتقديم الاستشارات النفسية للكبار والصغار عن بعد بسبب ما مرّت به بلدي سورية خلال الأعوام الماضية…

ولما نشرت الخبر على أحد وسائل التواصل فاجئني تعليق لزميل لي وهو متخصص في الطب النفسي بأن ما أفعله من تقديم الاستشارات بالاتصال (أي الطب النفسي عن بعد) هو مجرد ابتذال واستخفاف، وبأنه -حسب رأيه- أسلوب غير مجدي!!..
فهل الطب النفسي عن بعد فعلاً كذلك؟!
هنالك أيضاَ تساؤل طالما يسألني إياه طالبي الاستشارة وهو:
هل الطب النفسي عن بعد ممكن وفعّال ويفيد في حالات الأطفال؟!
الجواب: بعد تفشي وباء كورونا المستجد COVID19 وإعلان منظمة الصحة العالمية أنه وباء عالمي منتشر في 11/3/2020م، أصبحت الحاجة ماسّة لبقاء الناس جميعاُ في البيوت، وأصبحت الخدمات في معظمها تتحوّل إلى خدمات أونلاين، وعلى اعتبار أني أعمل في مجال الطب النفسي عن بعد وبخاصة في مجال الأطفال منذ سنوات، جمعت للقارئ الكريم (إن كان من أهل التخصص النفسي أو من عامة الناس) مقالة تُجمل الإجابة عن هذين السؤالين، حيث قمت فيها بتعريف الطب النفسي عن بعد وبخاصة مع الأطفال، مع تبيان أهميته ودليل فعاليته وفق الدليل العلمي، وإيجابيات وسلبيات ممارسته، ومبادئ وإتكيت هذه الممارسة من الناحية الإكلينيكية، من واقع خبرتي وبالاستفادة مما ورد من دراسات علمية في هذا المجال وبخاصة في الكتاب الأم في طب نفس الأطفال للبرفسور Mina Dulcan[2]. علماً أن قدمت هذه المعلومات ضمن محاضرة ضمن فعاليات مؤتمر الجمعية السورية للصحة النفسية (سمح) السابع في إسطنبول عام 2019 م[3].

 

محاور المقالة الأربعة

 

1- تعريف الطب النفسي للأطفال عن بعد حسب الجمعية الأمريكية للطب عن بعد American Telemedicine Association المعروفة اختصاراً (ATA) يُعرّف الطب عن بعد telemedicine بأنه تبادل المعلومات الطبية من طرف لآخر بواسطة التواصل الإلكتروني بهدف تحسين حالة المرضى.

أما الصحة النفسية عن بعد telemental health المعروفة اختصاراً  (TMH) (أو الجلسات أونلاين عن بعد online sessions ) تُعرف بأنها تطبيق الطب عن بعد من خلال تخصصات الصحة السلوكية والعقلية، وتشمل الطب النفسي عن بعد telepsychiatry والمعالجة النفسية عن بعد telepsychology، من خلال الاتصال عبر الفيديو Video-Tele-Conferencing المعروفة اختصاراً (VTC)
تعتبر الصحة النفسية عن بعد TMH الأكثر انتشارا وقبولا من فروع الطب عن بعد (Shore2013)، كما -وعلى خلاف ما يتوقع الكثيرون فإنه من الممكن تطبيق الطب النفسي عن بعد للأطفال بأعمار السنتين (Boydell 2007) وثلاث سنوات (Myers et al 2004) وحالات

التأخر العقلي (Myers et al 2004 2007) ، إضافة لأطفال سن المدرسة. ومن أشيع الاضطرابات النفسية للأطفال تقييما عن بعد أي TMH هو اضطراب فرط الحركة وقصور الانتباه المعروف اختصاراً ADHD (Dulcan’s Textbook 2015).

عموماً هنالك أنواع مختلفة من المعالجة النفسية يمكن عملها عبر TMH حسب الجمعية الأمريكية للطب عن بعد (ATA 2009)، ومن أهمها:

  • العلاج النفسي الفردي
  • العلاج العائلي
  • العلاج الجماعي
  • التداخلات النفسية في طب الأطفال

        

دليل فعالية الطب النفسي للأطفال عن بعد

بدأت الأبحاث على الصحة العقلية عن بعد TMH الخاص بالأطفال والمراهقين منذ عام 2000 م. إنَّ معظم الأبحاث تسلط الضوء على TMH الخاص بالبالغين. والجدوى والقناعة تزداد مع الوقت (Hilty et al, 2013; Myers et al 2011).

كانت مواقف مقدمي الاستشارات عن بعد (أي المختصين النفسيين) إيجابية (Myers et al 2007)، وكذلك العائلات (Elford et al 2000) وكذلك الفتيان المراهقين (Boydell et al 2010; Myers et al 2006). ولقد لاحظت ذلك الارتياح للجلسات عن بعد في حالات المراهقين و استشارات تدريب الوالدين (المؤلف).
كما لوحظ أن الأشخاص في المناطق الريفية يفضلون الاستشارة عن بعد كونها تبعدهم عن الوصمة (Nelson and Bui 2010). أما في المناطق المدنية فإن الطب النفسي عن بعد TMH نجح بخاصة مع المجموعات غير المطلعة على خدمات الصحة النفسية (Spaudling etal, 2011).
وحسب دراسة مفاجئة (بالنسبة لي على الأقل وقد تكون بالنسبة لك عزيزي القارئ) تظهر أن الاستشارات النفسية عن بعد ربما تكون أكثر فعالية من الاستشارة وجه لوجه (Pakyurek etal, 2010 )
ولا يوجد معطيات للآن بآثار سلبية خاصة لإجراءات الاستشارة النفسية عن بعد TMH (Diamond and Bloch’s 2010)، إلا فيما يتعلّق بخصوصية الجلسة وسريتها، إن كان بالنسبة للمعالج أو طالب الاستشارة، كون إمكانية تسجيل الجلسة وتسريب المعلومات واردة، ويمكن تلافي ذلك بالحلول التقنية التي تمنع ذلك.
أما فعالية العلاج المعرفي السلوكي عن بعد لحالات الاكتئاب عند الفتيان مقارنة بالعلاج وجه لوجه فهي مثبتة بتلك الدراسة (Nelson et al, 2003).
وفي دراسة من نمط RCT تبين أنه لا يوجد فرق في المعالجة السلوكية للعرات (اللزمات) الحركية TICs ما بين العلاج عن بعد والعلاج وجه لوجه (Himle et al, 2012).
ومن خلال دراستين منضبطتين حول اضطراب فرط الحركة وقصور الانتباه ADHD، الأولى حول تدريب الوالدين عن بعد مقارنةً بالمقابلة وجه لوجه (Xie et al, 2013) ، والثانية حول المعالجة الدوائية لهذا الاضطراب، وجدت الدراستين أن أعراض الاضطراب تحسنت بصورة هامة بل وأفضل من المعالجة المقدمة من أطباء الرعاية الأولية بعد جلسة واحدة فقط من الطب النفسي عن بعد Myers et al 2015)).

ما هي أهمية الطب النفسي للأطفال عن بعد عموماً وفي حالة تفشي وباء كورونا الجديد خصوصاً؟!

الجواب فيما يلي:
أولاً: تطور وسائل التواصل وانتشارها بين جميع الناس، وشيوع استعمال الأجهزة عند الأطفال والمراهقين، وهي بالنسبة لهم وسيلة جذّابة كما هو معلوم مما يسّهل إقناعهم بإجراء الجلسة بكل سهولة على خلاف الجلسات وجهاً لوجه.
ثانياً: يشبه الطب النفسي عن بعد إلى حد بعيد نظام الجلسات النفسية الحضورية وجهاً لوجه، وقد يفوقها من حيث الفعالية في بعض الحالات كما تم تبيناه فيما سبق.

  • ثالثاً: سهولة الوصول للمعالج أينما كان، إن كان من خلال إجراء الجلسة أو المتابعة.
  • رابعاً: الراحة في الجلسة أونلاين لطالب الاستشارة من حيث عدم الخروج من المنزل، وهذا المنصوح به من هيئات الصحية العالمية خلال تفشي الأوبئة خاصةً.

خامساً: قلة أو ندرة المختصين النفسيين عموماً والمختصين بالأطفال خصوصاً مع عظم الأثر النفسي لظاهرة كورونا في مناطق العالم المتعددة حيث اختلاف اللغة والثقافة. فخلال 20 سنة وحتى عام 2020 م في الولايات المتحدة الأمريكية فقط ثلثي عدد أطباء نفس الأطفال المطلوبين (Hyde 2013)، هذا الأمر مدروس في الأحوال العادية، أما بعد تفشي وباء كورونا المستجد وما استجد معه من آثار نفسية صادمة للمجتمع عموماً، وضغوط غير اعتيادية ناجمة عن تغيرات ضخمة في نواحي الحياة المختلفة الاجتماعية والمالية والمهنية والأسرية والتعليمية… الأمر الذي يتطلب مساعدة نفسية ضخمة تصل لداخل البيوت التي تعتزل الأسر مع أطفالها الخروج منها.

مبادئ الممارسة الإكلينيكية للطب النفسي للأطفال عن بعد

إنً هدف الجلسة النفسية عن بعد (أونلاين) هو ترجمة أو تحويل أفضل ممارسات الجلسة السريرية وجهاً لوجه إلى وضعية جلسة نفسية عن بعد TMH (APA 2014)
تتطلب الرعاية النفسية السريرية الفعّالة نوعيةً ممتازةً من المقابلة النفسية، من حيث ترتيب مساحة إكلينيكية جيدة كفاية سواء للمريض والمعالج على حدٍ سواء، فإنّ أكثر ما تتأثر العلاقة الافتراضية بالمظهر الذي يبدو على الشاشة (Onor and Misan 2005).

فما النواحي التقنية المطلوبة في الطب النفسي للأطفال عن بعد ؟

يجب أن تكون الجلسة أونلاين حيّة وَتفاعلية، من خلال تطبيق ما يلي:

  • توفر كاميرا عند الطرفين (المعالج والطفل)، مكان الكاميرا مهم وتركيز الفاحص هام جدا ( فوق أو تحت أو وسط الشاشة)، وفي حال رفض الحالة فتح الكاميرا مكتفيا بالصوت فقط، يجب أن يتم الاتفاق على أن هذا يُقلل من جودة الجلسة، ويحتاج إلى تركيز عالي جدا عند الفاحص (المؤلف).
  • أن يكون اتصال النت أو المودم جيد وعالي السرعة (أكثر من 386 k. bites/sec)، و أن يكون اتصال موثوق وآمن encryption وغير قابل للاختراق، قد يكون برنامج سكايبي skype حل جيد ومقبول لعدة أسباب من أهمها المحافظة على خصوصية المعالج بألا يكون من خلال رقمه الخاص. علماً أن التكنولوجيا المتوفرة على نوعين: تطبيقات معيارية خاصة بالجلسات عن بعد يقوم بتصميمها المعالج، و تطبيقات برمجية حسب المستهلك ( (Goldstein and Myers 2014 مثل برامج الاتصال المعروفة كالواتسآب.
  • أن تتوفر مساحة إكلينيكية عند المعالج وعند الطفل، كأن يجلس المعالج في مكتب رسمي ذو مساحة مهنية موثوقة ومضاء بشكل جيد، والطفل في غرفة هادئة ومناسبة، بحيث يوجد لعبة أو مكعبات أو ماركر و ورق مع طاولة ليرسم الطفل أو يلعب ويراقبه المعالج، مع عدم وجود ألعاب إلكترونية مع الطفل إلا في ظروف خاصة (Carlisle 2013).
  • أن تتوفر أدوات عالية الفعالية في التواصل تسمح للفاحص بقراءة تعبيرات وجه الطفل أو مراقبة حركته، من خلال دقة كاميرا جيدة عند الطرفين ومساحة يمكن للطفل أن يتحرّك بها. فيجب ألا تكون الغرفة الذي يتصل منها الطفل صغيرة جدا لتقييم حركته، وألا تكون أيضاً كبيرة جدا بحيث لا يمكن التدقيق في ملامح الوجه.
  • أن تكون مساحة التواصل آمنة من حيث إدارة محكمة للمقاطعات المتوقعة في الجلسة العلاجية عند الطرفين، كأن يتم وضع لوحة على الباب عند المعالج والحالة. ويجب أن تكون تجهيزات الصوت جيدة والفاحص بعيد عن الضجيج.
  • يجب أن يكون لباس الفاحص غير مشتت للمريض عموما وللطفل خصوصاً كالملابس البيضاء أو ذات التناقض العالي (المقلم)

للعلاقة الافتراضية إتكيت!، فما هو؟!

من إتكيت العلاقة الافتراضية ما بين المعالج الفاحص والطفل هو وجود “الشاشة”، وأن يكون التواصل لفظياً وغير لفظي أيضاً، مثل السلام باستعمال اليد، وعمل بعض الحركات اللطيفة للطفل. ومن المهم رؤية الطفل نفسه على الشاشة، ومن المهم أيضاً أن يستطيع الطفل أن يرسم خلال الجلسة مع المعالج، علماً أن جلسات اللعب التقليدية play therapy تحدي حقيقي في الجلسة أونلاين، فمن الممكن أن يرسم الطفل ثم نناقشه بما رسم كالمعتاد في الجلسة، ومن الممكن أن نلعب مع الطفل بالدمى ونصنع سيناريوهات مثلاً…
ومن المفيد توفر فريق إكلينيكي -إن أمكن- ينسق الجلسة في الموقع الجغرافي للحالة، للمساعدة في ترتيب الأمور التقنية، منعاً لأي عوائق تؤثر على جودة الجلسة العلاجية عن بعد.

أما عن تواجد الطفل لوحده أو مع أهله في الجلسة عن بعد؟!
يشبه إلى حد بعيد الجلسة الحضورية وجهاً لوجه، فإنّ تقييم الفتيان الكبار (مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة) من الممكن أن يكون لوحدهم وبخاصة عند ضمان سيطرتهم على أنفسهم، وتوفر مهارات لفظية جيدة وقدرة على الانفصال عن أبويهم، أما تقييم الأطفال قبل المدرسة فيجب أن يكون مع أبويهم، حيث يتم مراقبة تفاعل الطفل معهما، ومع الشخص الغريب من فريق التنسيق إن توفر ذلك. ويجب محاولة التفاعل مع الطفل مباشرةً، مثلاً من خلال أن نطلب منه أن يميز الألوان وأجزاء الجسم والعد.
ومن الطريف أن أذكر أنه يصعب أن يفهم الطفل الصغير أن المعالج النفسي عن بعد شخصية حقيقية في مكان مختلف!!

المعالجة الدوائية عن بعد

حسب ملاحظتي أنَّ أكثر ما يشغل بال الأطباء النفسيين والمرضى هو كيفية وصف الدواء وصرفه من خلال الجلسة أونلاين، لما ذلك من مسؤولية على  الطبيب الفاحص ومدى وجود نظام صحي  يدعم الوصفة الإلكترونية والأهم من ذلك كيف سيرسل الطبيب وصفة الدواء مكتوبة للمريض ؟!
فلا يزال النظام الصحي في المنطقة العربية لا يدعم بشكل واضح الوصفات الإلكترونية E-prescriped ، ويضطر الطبيب عن بعد أن يقدم مقترحاته الدوائية للمريض، وهو بنفسه يراجع طبيب في منطقته ليصرف له الدواء، وفي هذا حرج لكلا طرفي العلاقة الافتراضية، نتمنى ضبطه بشكل جيد وكافي وسلس في القريب العاجل (المؤلف).

مع العلم أنّ المعالجة الدوائية عن بعد هي الأكثر طلبا في الطب النفسي عن بعد (Cain and Sharp, in press)، ولكنها تتبع نظام العمل الصحي المتبع في مكان الطبيب النفسي عن بعد Telepsychiatrist ومكان تواجد الحالة.
بالنسبة للأدوية غير مراقبة: يمكن إرسال الوصفة الإلكترونية E-prescriped بالإيميل، أما بالنسبة للأدوية المراقبة: يوجد أنظمة لصرفها في الولايات المتحدة وترسل عبر البريد. علماً أنّ مراقبة القيم الحيوية وتحاليل الدم اللازمة والمتابعة الطبية بشكل دوري.

ما هي معايير قبول الاستشارة أونلاين أو رفضها ؟!

ممكن القيام بالجلسات النفسية عن بعد لكل الحالات النفسية بكفاءة وأمان، ما عدا ثلاث حالات وهي:
(1) حالة المريض المتهيج
(2) محاولة الانتحار
(3) حالة طفل لوحده دون مرافقين له.

عموماً حالات الإسعاف النفسي في مجمله وحتى كتابة هذه الأسطر يصعب تقديمه من خلال الجلسات النفسية عن بعد، ويتضمن تقديمه مخاطرات كبيرة سواء للحالة أو المعالج، والأفضل تجنبه وإرشاد طالب الاستشارة إلى أقرب مركز طبي وجهاُ لوجه (المؤلف).

وأخيراً

إن للطب النفسي عن بعد وبخاصة للأطفال أهمية كبيرة جدا، وله اعتبارات أساسية وتحدّيات جدية، يجب دراستها وإيجاد حلول لها وبروتوكولات خاصة بالطفل العربي والأسر العربية بما يتفق مع ثقافتنا ضمن معايير مهنية عالمية معروفة، وبما يحقق خدمة وسلامة طرفي العلاقة “المعالج النفسي والشخص أو الطفل المتعالج”.

تمت كتابة المقالة مساء 21/3/2020م

  • من إعداد الدكتور ملهم زهير الحراكي
  • دراسات العليا تخصصية في الطب النفسي العام من جامعة دمشق، وترخيص في العلاج النفسي للأطفال والمراهقين من جامعة هامبورج.
  • أعمل حالياً مديراً لمكتب بيتُ سلام للاستشارات الصحية، ومؤسس لمجموعة بصيرة للاستشارات النفسية والتربوية عن بعد.