هنالك اتجاهاً عالمياً معروفاً – وليس عربياً فقط – وله وجوده الفعلي على أرض الواقع المعارض للطب النفسي، ويُدعى الاتجاه هذا أو الموقف ضد الطب النفسي anti-psychiatry attitude …
وله ما يفسر وجوده ككل علم أو نظرية لها من يؤيدها، ولها من يخالفها بل من يعاديها في معظم الأحيان …
وربما أجد شخصياً تفسير وجود هذا التيار أو الموقف ضد الطب النفسي (أنتي سيكتري) فيما يلي من نقاط:
1- التأثيرات الجانبية للأدوية النفسية:
كالاعتياد أو التأثيرات على النمو والتطور وبخاصة عند الأطفال والمراهقين، والسمنة والتأثير السلبي على وظائف الأعضاء كالكبد والكلية أو حتى حالات الوفاة للمريض النفسي. ربما هي من ساهمت في تشكيل هذا التيار المعادي للطب النفسي.
علماً أن الأدوية النفسية كغيرها من الأدوية الطبية الغير نفسية تماماً من حيث التأثيرات الجانبية المزعجة أو حتى الخطيرة المميتة، بل قد يكون بعض الأدوية النفسية لطيفاً على الجسد وبدون أي تأثير جانبي مزعج، مثله مثل بعض الأدوية شائعة الاستعمال كالباندول. أما قضية الاعتياد أو الإدمان على الأدوية النفسية، فهي خاصة بفئة محدودة فقط من الأدوية النفسية كعائلة البنزوديازبينات. أما الأدوية الباقية (وهي الفئة الأكبر) لا تسبب ما يُعرف بظاهرة الإدمان أو التعوّد.
الصورة التالية لمظاهرة مضادة لمؤتمر الأطباء النفسيين الأمريكي APA عام 2013 مدينة سان فرانسيسكو، كانت المظاهرة للتعبير عن غضب الناس من صرف الدواء النفسي للأطفال، ومع سلبيات الدواء النفسي للأطفال الذي يمكن الوقاية منها بالمراقبة الطبية الدورية للطفل، إلا أن الدواء النفسي يبقى من أعمدة العمل العلاجي، والذي أثبت فائدته في تحسين الحياة النفسية والتطور اللغوي والأكاديمي خاصةً عند الكثير من الأطفال الذين زاروني في العيادة…
2- الوصمة الاجتماعية social stigma:
المتعلقة بإصابة الشخص بالاضطراب النفسي المرضي، على أنه مجنون أو ممسوس أو مسحور أو مغضوب … إلى آخره. وهذه الوصمة والاعتقادات المفسرة لطبيعة المرض النفسي ساعدت سابقاً وحالياً في تقوية هذا التيار.
سأعلّق على ذلك في النقطة الثالثة ((وهي الأهم)) ……
3- طريقة طرح المختصين النفسيين:
وبخاصة من خريجي علم النفس وعلم الاجتماع، وحتى من يسلك مسلكهم من الأطباء النفسيين للمواضيع النفسية والاجتماعية بطريقةٍ منفرة لعموم الناس من الطب النفسي، حيث يقومون بطرح المواضيع النفسية طرحاً فلسفياً تنظيرياً عاماً غير مفهومٍ وغير عمليٍ، ولا يُسمن ولا يغني من جوع، فلا يفيد في التطبيق العملي على واقع حياة الناس. أو طرحاً أدبياً شعائرياً، غالباً ما يلبس لبوس الدين، يجعل ممن يسمعهم أو يقرأ لهم يعتقد بأن علم النفس والطب النفسي ليست إلا علوم تنظيرية غير قابلة للتطبيق، وهي مجرد تحليقٍ حالمٍ فوق أرض الواقع أو كلامٍ يصدر من بعيد عن إنسان يقبع في برجٍ عاجيٍ، لا علاقة له بالواقع المعاش، ولا أساس لكلامه من الصحة.
في حين أن الطب النفسي وعلم النفس -وخاصةً في منتصف القرن الماضي- أصبح “علماً مقنناً” كغيره من علوم الحياة، تحكمه قوانين كأي علمٍ تجريبيٍّ، له أسسٌ علميةٌ ودراساتٌ إحصائيةٌ دقيقةٌ، يزدحم بنتائجها يومياً بريدنا الإلكتروني، لعظم النمو والتطور الذي يكاد أن يكون يومي أو أسبوعي.
علم النفس عموماً من أرقى وأعظم العلوم، ومن أصعبها وأعمقها وأخطرها أيضاً!!! …
فهو علمٌ هامٌ جداً يتفرع عنه أكثر من 50 فرع، كعلم النفس الطبي وعلم نفس النمو وعلم النفس التربوي والعسكري والسياسي والاجتماعي والإعلامي والصناعي …. ليؤثر تأثيراً بالغاً في قيادة الحياة العامة للدول المتحكّمة في السياسات العالمية كأمريكا ومن في حكمها …
وندرك ذلك من إحدى تعريفات علم النفس psychology، بـأنه أي علم النفس “دراسة سلوك الإنسان، من حيث فهم دوافع هذا السلوك في شتى مجالات الحياة، ودراسة كيف يمكن تغييره والتأثير فيه”
علم النفس عموماً والطب النفسي خصوصاً له جوانب عملية جداً هامة في المجال السريري العيادي الطبي وفي شتى مجالات الحياة، ويكاد يكون لكل مجال سيكولوجيا معينة له، يتم دراستها تجريبياً وبشكل مقنن ودقيق كدراسة أي دواء أو مادة كيماوية أو تكنيك علاجي ..
أطلب منك يا من تتكأ على أريكتك وتسرح وتحلق، ثم تنظّر علينا في علم النفس وغيره ما لم ينزل الله به سلطاناً، لقد سبقك من اتكأ ونظّر، ثم جرّب وخاب ثم جرّب وخاب … إلى أن نجح بعد رحلة طويلة من البحث في إيجاد نظريات علمية وعملية لبعض تنظيراته، فلا تقف ما ليس لك به علم!!
ارحمنا من تنظيرك وتأملاتك، فإن منكم يا معشر النفسانيون لمنفرين!!!
وبالمقابل “ولو علمت جماعة أنتي سيكتري ما نعلم من لذة طبابة النفس البشرية، لتزاحمت معنا في ذلك 🙂 “